فصل: 5 - المقابلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.5 - المقابلة:

147 - إن المقابلة بين شيئين أو أمرين، أو شخصين تكون ليعرف أيهما المؤثر في عمل معين، وإذا ثبت أنَّ التأثير لواحد منهما كان له فضل التقديم على غيره، وقد كان ذلك النوع من ينابيع الاستدلال كثيرًا في القرآن الكريم؛ لأنَّ المشركين كانوا يعبدون أحجارًا يصنعونها أو مخلوقات لله تعالى خلقها، وكانوا يعتقدون أن لها تأثيرًا في الإيجاد، أو في الشر يمنع، أو الخير يجلب، فكانت المقابلة بين الذات العلية وبين ما ابتدعوا من عبادة الأوثان ينبوعًا للاستدلال على بطلان ما زعموا، ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ، وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل: 17، 18].
هذا هو النص الكريم، وفيه مقابلة بين المعبود بحقٍّ وهو الله سبحانه وتعالى - خالق السماوات، وهم يؤمنون بأنَّ الله وحده خالق السماوات والأرض: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25] وهم يعلمون أن الأحجار التي يعبدونها صنعت بأيديهم ولم تخلق شيئًا، فالقرآن من هذه المقابلة يأتي بدليل يلزمهم ويفحمهم أو يقنعهم إن استقامت القلوب، وإن الدليل بالتقابل يصح أن يكون عندما ادعيت الألوهية للخالق جلت قدرته مع المخلوق المصنوع بأيدي العباد، وبالمقابلة بينهما نجد الخالق يحتاج إليه كل ما في الوجود، والمصنوع بأيدي العباد لا ينفع ولا يضر، فالله وحده هو الإله الحق الذي لا يعبد سواه؛ لأنه لا يحتاج لأحد ويحتاج إليه كل أحد {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 1 - 4].
ومن المقابلة التي كانت ينبوعًا للاستدلال قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الرعد: 16].
وأن هذا الاستدلال قائم على المقابلة، فكانت المقابلة من لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًّا، ومن هو القهار القادر على كل شيء وهو الواحد الأحد الذي لا يشبهه أحد، وكأن المقابلة بين الأعمى والبصير، ويشمل الأعمى من لا يدرك الحقائق، والبصير من يدركها، وبين الظلمة التي تعتم النفس، والنور الذي يشرق به القلب، ومن يخلق ومن لا يخلق، وهذه المقابلات ينابيع الإدراك الموجه المسترشد، والظلام المعتم المحير.
وإن هذه المقابلات تصلح دليلًا مثبتًا في عدة دعاوى، ويكون في المقابلات الحكم الفصل الهادي المرشد.
ففي الدعوى الأولى ادِّعَاء المساواة بين من يملك كل شيء ومن لا يملك لنفسه النفع والضر، والحكم الذي ينتجه الدليل أنهما ليسا متساويين، وإذا كانت دعوى المساواة في الألوهية باطلة، فالحكم بالنفي، والإله هو الله وحده الذي يملك كل شيء، وفي الدعوى الثانية نفي التسوية بين من أدرك الحق واهتدى، ومن ضلَّ وغوى، والأخير كالأعمى، والأول كالبصير، فأيهما يهتدي إلى الطريق السوي، ولا شك أن الحكم أن الخير في المبصر المهتدي، وليس في الضال المرتدي، فالفضل لأهل التقوى ولو كانوا ضعفاء يستضعفهم الناس.
وفي الدعوى الثالثة ادِّعاء الاشتراك في الخلق والتكوين بالزعم لا بالحقيقة، وهذه باطلة، بل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار، وبذلك يتحقق الحكم فيما هو صادق واقع، لا فيما هو مزعوم مختلق.
ومن المقابلات القرآنية التي دلَّت على البعث، وكان فيها رد على أوهام للكافرين في قوله تعالى: {َوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 33، 34].
ونرى هنا استدلالًا على أنَّ البعث ممكن في ذاته، والتصديق به واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به على لسان نبيه الكريم وفي كتابه المكنون؛ إذ جاء به القرآن الكريم، ودعا إليه محمد الأمين.
وكان الاستدلال بطريق المقابلة، وكانت المقابلة بين إنشاء الأحياء ابتداء والخلق والتكوين من غير سابق، وأنَّ القدرة فيه كانت، ولم يعي بخلقهنّ، وبين الإعادة للأجسام التي خلقت ثم صارت رميمًا، وأنه إذا كانت قد وجدت، فالثانية قد وجدت وهي تجيء إذ أخبر بها العزيز الحميد، القادر على كل شيء.
وأن بهذه المقابلة بين الإنشاء والإعادة، وبين الخلق من غير أصل سابق والإعادة ينتهي به ذو العقل الرشيد إلى الحكم بأن البعث ممكن في ذاته، وأنَّه واجب الاعتقاد؛ لأنَّ الله تعالى أخبر به، {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الرعد: 5].
ومن الآيات الدالة على أن الله تعالى خالق كل شيء، واعتمدت الدلالة فيها على المقابلة قوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ، أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ، نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ، أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ، لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ، إِنَّا لَمُغْرَمُونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ، لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ، أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 57 - 74].
ونجد من هذه المقابلات بين إنشاء الخالق وعجز الإنسان ما يدل على أنه هو الذي خلق فهدى، وأنه العليم بما خلق، وأنه بهذا المستحق للعبادة وحده، وأنه ليس كمثله شيء وأنه الواحد الأحد.

.6 - الاستدلال بالتشبيه والأمثال:

148 - من ينابيع الاستدلال في القرآن التي تثبت قدرة الله تعالى، وصدق ما يطلب الدين الحق، وما أتى به القرآن - التشبيه وضرب الأمثال، وقد ذكر الله تعالى في القرآن الكريم أنه يضرب الأمثال ويبيِّن الحقائق عن طريقه، وضرب الأمثال باب من أبواب التشبهي، وهي تضرب كما ذكرنا في باب التشبيه للغائب لتقريب الحقائق ولتشبيه الغائب غير المحسوس بما يقربه من القريب المحسوس، ولتوضيح المعاني الكليّة بالمشاهد الجزئية، وللاستدلال بحال الحاضر على الغائب.
ومن ذلك قوله تعالى الذي ذكر فيه أنَّ المثل يكون لبيان الحقائق، سواء أكان بالصغير أم كان بالكبير، فقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
وفي هذا النص يثبت الله تعالى أنه سبحانه يقرّب الحقائق الثابتة بالأمثال، ويأتي بالدليل من بيان الأشياء، واستخراج خواصها، والإثبات بالأدلة عن طريقها، وأن الناس في تلقي هذه الأدلة فريقان: فريق آتاه الله قلبًا نيّرًا يصغي إلى الحق ويأخذ به، ومنهم من أصاب العناد قلبه، فإذا قوي الدليل فإنه يزيد إصرارًا وإمعانًا في الضلال، فيوغل فيه، وهذا معنى قوله تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ}.
فهذا النص يفيد أنَّ الله تعالى في القرآن الكريم يتخذ من الأمثال تبيينًا للحقائق، وتثبيتًا، وإقامة للدليل بها.
واقرأ قوله تعالى في بيان عجز الأصنام ومن يعبدونها العجز المطلق وقدرته تعالى على كل شيء، فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 73، 74].
انظر إلى الديل القاطع الذي يثبت بطلان الوثنية، ويقيم الدليل على الوحدانية، فإن الأوثان ومن يتبعونها ولو تضافرت كل القوى معها لا يمكن أن يخلقوا ذبابًا ذلك الطير الضعيف أو تلك الحشرة الضئيلة التي يستحقرونها، ولو أنَّ الذباب سلب منهم شيئًا، ولو اجتمعوا مع أوثانهم على أن يستردوه ما استطعوا إلى ذلك سبيلًا، وهم والذباب سواء في الضعف وإن بدوا أقوياء، وهذا أضعف خلق الله تعالى في زعمهم، فكيف يكون للذين يدعونهم آلهة قوة أمام الله، وكيف يعبدونهم معه، وهم لا وجود لهم ولمن يعبدونهم بجواره سبحانه وتعالى - علوًّا كبيرًا، فهذا المثل سيق مساق الاستدلال وكان دليلًا قويًّا، إن كانوا طلاب حق يلتمسون الدليل عليه، وإن كانا طلاب باطل ضلوا السبيل، لا يزيدهم الدليل إلَّا كفرًا.
ومن الأمثلة الموضحة التي تثبت كمال سلطان الله وأنه وحده القادر وبطلان غرور الإنسان إزاء قدرة الله تعالى قوله سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا، وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا، لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا، هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} [الكهف: 32 - 44].
وهذا المثل الواقعي التصويري فيه دليل على إثبات حقيقتين، أولاهما: أنَّ المغترّ دائمًا يدلي به غروره إلى أنه يحكم على المستقبل بما هو عليه في الحال القائمة، والقوة الموهومة، فذو الجنة والنفر ظنّ أن الحاضر ينبئ عن المستقبل، وغره بالله الغرور، وتعالى من غير علوّ، وتسامى من غير سموّ، واستقوى من غير قوة، فجاء المستقبل وخيب الأمل وكشف الحقيقة.
الحقيقة الثانية: إثبات أنَّ الولاية والنصرة لله سبحانه وتعالى، وأنه وحده المالك للأمور كلها في ماضيها ومستقبلها وشاهدها، وغائبها.
فكان المثل دليلًا على وباء الغرور، وأن الأمر لله وحده.
ومن الأمثال الموجّهة إلى الحقائق الخلقية والدينية قوله تعالى في سورة القلم: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 17 - 23].
سيقت قصة أصحاب الجنة الدنيوية، وهي قصة واقعية تصويرية، وهي دليل مثبت؛ أولًا: لأنّ الزكاة تطهر المال وتحميه؛ لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} فهي للمال نظافة ونماء، وهم قد أقسموا ليصرمنَّها مصبحين، وأن لا يدخلنَّها اليوم عليهم مسكين، وتثبت ثانيًا: أن العاقبة الحسية تؤثر في النفس إن كان فيها قابلية للهداية، وهؤلاء إذا كانت قد ضاعت منهم الثمرات، فقد عادت إليهم بأعظم العظات، فما كسبوه من عظة أكثر مما فقدوه من ثمرة، وثمرات القلوب أطيب من ثمرات تشتهي الأبدان طعمها، وهي دليل على أنَّ الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأن الأقدار تحت سلطانه، ويجريها كما يحب وكما يشاء.
ومن الأمثلة التي تساق مساق الدليل قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 75، 76].
والآيات قبل ضرب هذين المثلين كانت في الأمر بعبادة الله تعالى وحده والإخبار عن عبادة المشركين من لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا؛ إذ يقول سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ}، فجاء سبحانه وتعالى - بهذين المثلين، وهما يبطلان عقيدة الشرك وزعم المشركين بأمثلة تقع في الحياة، والحكم فيها من البدهيات التي لا ينكرها عاقل، ولا يختلف فيها فكر عن فكر، وكل مثل من المثلين دليل قائم بذاته على بطلان الوثنية؛ إذ فيه تسوية بين من لا يقع بينهما التساوي.
أمَّا أولهما فقد ضرب برجلين أحدهما عبد مملوك لا يقدر على شيء؛ لأنه مملوك لغيره، فهو ليس له مال، فهل يستوي هذا مع رجل مرزوق من الله تعالى رزقًا حسنًا، إن التسوية غير معقولة بين من له مال يعطي منه غيره، أو ينفق منه في الخير سرًّا وجهرًا، وبين المملوك الذي لا مال له، إذا كانت التسوية غير معقولة، فتسوية أولئك المشركين بين الأحجار التي لا تضرّ ولا تنفع في عبادتها مع الله تعالى الرزاق ذي القوة المتين، المالك لكل شيء، الذي له ملك السماوات والأرض، أبعد عن كل معقول، وذلك برهان على بطلان الشرك كله، سواء أكان إشراك حيوان أو إنسان أم كان إشراك حجر.
وثاني المثلين أنَّ الله يضرب مثلًا برجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء، وهو كَلٌّ على مالكه أو ذي قرابة له يتولَّى أمره، ولا يتجه إلى جهة ويأتي فيها بخير، بل إن الطرقات مسدودة أمامه من جوارحه المئوفة الناقصة، فهل يستوي مع رجل موهوب في عقله وخلقه، وكيانه الإنساني والنفسي، يسلك الصراط المستقيم، يأمر بالعدل، ولا يحيد عن سبيله، فهما إذن بالبداهة لا يستويان.
وإذا كان هذان الرجلان لا يستويان بداهة، فأولى ألَّا تتساوى في العبادة الأحجار مع خالق الكون، وهادي الخلق، ومانح النعم ومجريها رب العالمين.
ومن الأمثلة التي تدل على أنّ العبادة الخالصة لا تكون إلَّا لله تعالى وحده، وأنها بغير ذلك لا تكون عبادة، قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] إنَّ هذا المثل التصويري فيه دلالة على صدق التوحيد وفساد الشرك، فإنه سبحانه وتعالى - جعل الفرق بين التوحيد والشرك كالفرق بين رجل مملوك لعدة أشخاص هم مختلفون فيه، كلّ يريد أن يختص بأكبر حظ منه، وأن يكلّف أقل قدر فيه، وهو في ذاته ضائع بينهم نفسيًّا وماديًّا لا يدري أيهم يطالبه بحقه، فهو ضائع لا محالة وهو لا يحس بأمن في هذه الملكية المتنازعة، وذلك مثل من يعبد آلهة مختلفة تكون نفسه حائة بائرة غير مستقرة ولا مطمئنة، فليست كحالها، مع رجل سلمًا خالصًا لرجل لا يشاكسه أحد فيه، وهو مستقرّ يعرف من يخدمه ومن يعتمد عليه، ومن فوض أمره إليه، وذلك مثل من يعبد الله تعالى وحده، فإن من يعبد الله وحده تطمئن نفسه، ويجد المأوى، ويجد الملجأ والملاذ، وذلك مثل تهتدي به النفوس الشاردة.
ومن الأمثال التي ساقها القرآن الكريم للاستدلال بها على البعث والنشور، والإماتة الإحياء قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 259].
إن هذه القصة واقعية، وليس في سياق القول ما يدل على أنها تصويرية، والأصل أن تكون حقيقة، فلا بُدَّ أن أجزاءها قصة واقعة، وليست مجرد مثل تصويري، وهذه القصة معها دليل واقعي على البعث والنشور، وأنَّه في قدرة الله تعالى إعادة الموتى، فمن أنشأ الكون يحيي الموتى، وأننا سنموت كما ننام، ونبعث كما نستيقظ، فهو مثل وقاعي لبيان - كيف يحيي الله الموتى، فقد مات الرجل مائة عام، ثم أحياه الله، ورأى طعامه لم يتغير، ورأى حماره حيّ حسب أنه نام يومًا أو بعض يوم، والله على كل شيء قدير.